أيام الضحك والدموع - مذكرات نجيب الريحانى نجيب الريحانى مذكرات نجيب الريحاني•مذكرات نجيب الريحانى•مذكرات نجيب الريحانى

أيام الضحك والدموع - مذكرات نجيب الريحانى

متاح

هل سالت نفسك عن سر اهتمامك بنجيب الريحاني ؟،ان بينك وبين تاريخ ميلاده مئة وثلاثين عاماً وكسور ، وبينك وبين تاريخ موته خمسة وسبعين عام واكثر ،ومع ذلك انت مهتم به ،لابد ان هناك سر ، والسر انه (حقيقي)،وانه (صادق )وانه (موهوب )،وهي صفات لم نعد نجدها كثيرا في زمننا هذا ،فصرنا نبحث عنها في الماضي ، ونشعر بالحنين اليها ،وندافع عن تاريخ صاحبها اذا احسسنا ان هناك من يشوه هذا التاريخ ،او يزوره ، بحسن نية او سوء نية ، ان هذه المذكرات التي كتبها الريحاني عمل ابداعي لا يقل روعة عن مسرحياته الكثيرة ، وعن أفلامه القليلة التي نحفظها عن ظهر قلب ، لقد كتبها بروح ساخرة ،ولغة سهلة ،وقلم يجيد التعبير ،وعقل يحول مشاهد الحياة الي دراما نضحك مع صاحبها عليها ،والاهم انه مر علي اعدائه وخصومه وخطوب حياته بروح ضاحكة ،فلا حقد ،ولا خصومة ، وهو متسامح لأنه صاحب روح كبيرة ، وهو نفس السبب الذي يشرح صدقه ، فهو صريح لدرجة كانت نادرة في الماضي ،وأصبحت مستحيلة في الحاضر !وهو يعترف بذنوبه في الحياة والفن بصراحة تليق بشخص نقي، ولعل هذا هو سر ارتباك من اردوا تقديم معالجات مستوحاة من قصة حياته ، فتغيرات المجتمع لم تعد تسمح بهذا القدر من الصراحة ،لذلك ارتبكوا ،وبدلوا بعض الوقائع ،وحاولوا إيجاد سبب مادي او نفسي لخلافه مع والدته ، والحقيقة انها كانت تحبه جدا ،لكنه كما يعترف بنفسه كان طائشا ، كثير المغامرات ،وكانت بعض المغامرات تتحول الي فضائح كما يروي هو ساخرا ، فلم تكن تملك سوي ان تطرده من المنزل ،لتعيده لجادة الصواب ، لقد ولد نجيب الريحاني في ١٨٨٩، وخرج للحياة العملية في غضون ١٩٠٦، حيث تخرج من مدرسة الفرير في( الخرنفش) ، ليلتحق ببنك التسليف الزراعي ، وهو عراقي الاب ، مصري الام ،والمولد ،والهوية ، خرج للحياة العامة ومصر تستفيق من صدمة الاحتلال الإنجليزي ،وتتدفق الدماء مرة اخري في شرايينها ، بعد تولي الخديوي عباس حلمي الثاني ، الذي كان يشعر بالخزي من استكانة والده لبريطانيا ،ويسعي للتحالف مع شباب الحركة الوطنية ، ويبدي اهتماما بالفن والصحافة ، فيرسل (جورج ابيض )علي نفقته الي أوربا لدراسة المسرح ، ويمول صحف (اللواء)، و (المؤيد )..الخ في هذه الظروف يتعرف الريحاني وهو طالب في المدرسة الفرنسية علي المسرح ، ويرعاه مدرس لغة عربية لاحظ تميزه في فن الالقاء وفي حفظ الشعر ، وبالتالي كانت الثقافة هي مدخله للمسرح ، حيث تعرف ل(عزيز عيد )الموظف مثله في بنك التسليف ،وهو مثله لبناني الأصل مصري المولد ،ولد في كفر الشيخ ،ثم عاد للبنان ،ثم رجع الي مصر بعد ان تعلم المسرح وصار مجنونا به ، وكان الريحاني يساهم في تعريب بعض المسرحيات الفرنسية ،ويقضي اوقاته في مقاهي شارع عماد الدين ،ويهمل عمله في البنك حتي فصلوه ، وقد عاقبته والدته علي اهماله بطرده من المنزل ، فدفعه كبريائه لان يبقي دون طعام لمدة ثماني وأربعين ساعة كاملة ،الي ان عثر علي خمسة مليم في الشارع فأولم لنفسه وليمة من الفول والطعمية ومشتملاتها ،وقد سجل جانبا من هذه المشاهد في بعض أفلامه !وهو يروي انه كان ينام في حديقة مجاورة لكوبري قصر النيل بعد ان يغلق المقهى الذي يقضي عليه سحابة نهاره ،وانه فوجئ ذات يوم بجار له في الحديقة دقق فيه فاذا به صديقه المسرحي محمد صدقي ،واذا حالهما واحد ،وجاء الفرج علي يد صديقه المترجم الذي حمل له عرضا لترجمة روايات بوليسية فرنسية مقابل خمسة قروش وغرفة في فندق ،وهو عرض انقذهما من التشرد والجوع معا ، وعلي ما يبدو فان عدم سهولة الحصول علي فرصة في التمثيل دفع الريحاني للعودة للوظيفة ،حيث سافر ليعمل في شركة السكر في قنا ، ولأنه فنان قبل كل شيء ، وبوهيمي بالفطرة ،فقد تورط في علاقة غرامية أدت لفصله من الشركة بعد فضيحة ذات طابع كوميدي ،فطردته والدته مرة اخري !ولم يكن امامه سوي الكفاح في عالم المسرح ،بعد ان بدد بعض ما أدخره اثناء الوظيفة ، وكانت مشكلة الريحاني انه موهوب كبير ،وكان أصحاب الفرق يكتشفون انه ليس ممثل دور ثان ،ولكنه مشروع نجم قادم فيفصلوه ،حيث كان كل صاحب فرقة يلعب دور البطولة في مسرحياته ،ولا يسمح لمن يعملوا تحت ادارته ان يسحبوا منه أضواء الاعجاب ،ولان الريحاني كان معجونا بماء الفن ،فانه كان يبحث عن تفاصيل يضيفها للشخصية التي تسند اليه فيجذب بها الأضواء من صاحب الفرقة ،وقد كان هذا سبب رفده من فرقة سليم عطا الله ،ثم من فرقة جورج ابيض ملك المسرح المتوج وقتها ، ولم يجد الريحاني سوي العودة للمقهي الي ان إصطحبه (استيفان روستى )صديقه ليشارك في عرض من عروض خيال الظل ، في صالة للرقص يملكها إيطالي ،وكان عزائهما انهما لا يظهران بشخصيتهما الحقيقة ،وكان اجر الريحاني أربعين قرشا في اليوم ،وهو مبلغ كان اعلي من طموحاته وانقذه من العودة للنوم في حديقة قصر النيل، ولأنه عبقري بمعني الكلمة ،ومؤلف قبل ان يكون ممثلا فقد ابتكر شخصية (كشكش بك )عمدة كفر البلاص ،وهو عمدة ريفي يبيع القطن ويأتي الي القاهرة لتلتف حوله الحسان وعصابات الأشرار ليفقدوه ماله ، وكان ستيفان روستي يلعب دور الشرير الذي يحمل اسم (الشيخ ينسون )، وقد صنع الريحاني للشخصية( إكسسواراً) خاصا بها ، وكان يظهر بلحية مصطنعة ،و(جبة وقفطان )ويتحدث بلغة تليق بعمدة كفر البلاص ، وقد نجحت الشخصية ،وحفرت مكانها في وجدان المصريين حتي انني سمعت سيدة من حي شعبي تصف شخصا متعاليا فتقول (عامل زي كشكش بيه)وقد كان ذلك في عام ٢٠٠٥ بعد خمسة وتسعين عام تقريبا من ظهور (كشكش بيه )لأول مرة ، وقد أضاف الريحاني شخصية شيخ الغفر( زعرب )ليشاركه مغامراته في القاهرة ،ورغم ان مسرحيات (كشكش بيه )لم تسجل الا انه يبدو اقرب ما يكون لشخصية العمدة (سليمان غانم )التي ابدعها أسامة أنور عكاشة والذي كان قارئاً كبيرا للتاريخ عموما ولتاريخ الفن بشكل خاص ، تحول كشكش بيه الي تميمة حظ الريحاني ،وحمله الي آفاق النجاح الفني والمادي ،واصبح نجم شباك ،وشريكا في المسرح بالنسبة الأكبر ،ومثل أي فنان لم يكن بارعا في الحسابات لدرجة انه يقول انه كان يحسب أرباحه من خلال ما يحصل عليه شريكه صاحب المسرح ،والذي اخبره ان نسبة ٣٠٪من أرباح السنة والتي حصل عليها بلغت ثمانية الاف وخمسمائة جنيه بأسعار ١٩١٧ ،فادرك الريحاني انه ربح في ذلك العام عشرين الف جنيه مصري (اضرب المبلغ في سعر الجنيه الذهب حاليا لتعرف قيمته )!!، وقد كان العقد من ١٩١٠وحتي ١٩٢٠ هو العقد الذهبي في حياة الريحاني ،حقق فيه نجاحه ،وارتبط بالفرنسية (لوسي فرناي )التي لم يعوضها ،واضطربت احواله بعد ان رحلت عنه بسبب (عطفه )علي بعض الممثلات في فرقته والذي يعترف به ولا يخفيه ... لكن ثورة ١٩١٩ كانت نقطة تحول في حياة الريحاني الذي كان هدفا لمكائد المنافسين ،بالحق وبالباطل ،فقد هاجمه إبراهيم عبد القادر المازني واتهمه بالإساءة للشخصية المصرية ووصفها بالسذاجة ،والغفلة ،رغم ان كشكش بك شخصية مستوحاة من الواقع بالفعل ،وعندما اشتعلت الاحداث هاجمه بعض المتظاهرين في الازهر ،واتهموه كذبا بانه صنيعة الانجليز ! وانه يحصل منهم علي نقود ليلهي المصريين عن قضاياهم ، ولا شك ان هذا الاتهام يحمل شبهة تعصب ديني ووطني بغيض، وقد اضطر الريحاني لمغادرة منزله خوفاً علي حياته والإقامة في فندق لبعض الوقت ، والحقيقة ان عام الثورة شهد تعاونه لأول مرة مع بديع خيري وسيد درويش ،وانه خرج من عباءة كشكش بيه ،وقدم أوبريتات غنائية تعبر عن الواقع المصري ،مثل (السقايين )الذي يجسد مشكلة اهل هذه الحرفة مع شركة المياه او (كوبانية المية)كما كان اسمها وقتها، ثم كان اوبريت (العشرة الطيبة )والذي غني فيه سيد درويش (لا تقول نصراني ولا مسلم )يا شيخ اتعلم ، اللي اوطانهم تجمعهم ،عمر الأديان ما تفرقهم )، وقد قال الريحاني ان سعد باشا زغلول زاره في مسرحه ربما كترضية له ،وربما كانت الزيارة قبل سفره للمنفي ..وبشكل عام انتهي العقد الذهبي في حياة الريحاني بافتراقه عن (لوسي فرناي )وزواجه في العام التالي من (بديعة مصابني ) التي قابلها اثناء زيارة له للشام ،وتعرف عليها ،وعاد معها الي مصر ،وهي راقصة وفنانة موهوبة ،وشخصية قيادية ،أصبحت نجمة لمسرحياته لمدة ثلاث سنوات ،وحققت نجاحاً كبيرا ،دفعها لان تحاول فرض شخصيتها عليه ، والأكيد انهما لم يسعدا كزوج وزوجة ،فقد قال الريحاني في مذكراته انها كانت تشكوا من لعبه ل(البلياردو ) وتشكوا للناس وكانه يرتكب كارثة فظيعة !،وقالت هي في مذكراتها انه يغلب عليه الاكتئاب ،وانه كان مهموما طوال الوقت ،ولا يمرح سوي علي المسرح ،وانها كانت تنتظره حتي يفيق في الثانية ظهرا ،ثم يشرب قهوته ويقرا الجرائد ،حيث لا يسمح بالكلام معه قبل هذا ..فاذا فتحت معه موضوعاً ما فانه يرد بعبارات مقتضبة ،فيقول لها (ايوة ..ايوة )او (مضبوط )او (تمام ) الي غير ذلك من عبارات تندرج تحت بند (تكبير الدماغ )بلغة هذه الأيام ..واغلب الظن انهما لم ينسجما بسبب كون كل منهما شخص قيادي وصاحب مشروع ،وربما بسبب تطلع بديعة مصابني لزوج متفرغ لحبها بينما الريحاني مشغول بفنه طوال الوقت ، وقد تعامل الريحاني مع انفصالهما بسخرية وبعض الود ،حيث امرت فتيات الاستعراض التابعات لها بالانسحاب من فرقته فقال ساخرا (وهي كانت مقيداهم في القايمة دول كمان )؟!... ولم تكن أعوام النصف الثاني من العشرينات هي سنوات سعد الريحاني ،الذي استجاب لرغبة بداخله وهجر الكوميديا و(كشكش بك )الي المسرحيات الجادة التي يسميها (الدرام )وعزاءه في هذا ان (شارلي شابلن )مثله الأعلى كان لديه نفس الرغبة ،وكان يتطلع لأداء شخصية نابليون ، ولكن اختيار الريحاني كان اختيارا خاطئا فتراجعت أسهمه ،وضاعف من تراجعه عودة يوسف وهبي من إيطاليا ،وحصوله علي ميراثه من والده ،وافتتاحه مسرح رمسيس بإمكانات مهولة لا يصمد امامها مسرح (الإيجبسيانة )الذي كان الريحاني يعرض فيه مسرحياته ،والذي كان بلا سقف وارضه ترابية ،وكراسيه اقرب لدكك خشبية !، وضاعف من تراجع الريحاني انسحاب بديعة مصابني وكان لاستعراضاتها دور في جذب الجمهور ، ثم تفاقم سوء حظه فتحول الي ديون قيمتها أربعة الاف جنيه ،فحجر عليه الدائنون وشكلوا لجنة لإدارة المسرح ،وعينوا مديرة من طرفهم كانت تمنحه سبعون قرشا يوميا كمصروف شخصي وتخصص الباقي لسداد الديون ،وقد اهداه احد (الديانة )روشتة النجاح حين قال له (قوم البس كشكش بيه واقف علي المسرح وانت تسدد ديونك )فنفذ نصيحته ،فعاد النجاح ،ولكن ليس كما كان في الماضي ، واضطر للسفر في رحلات طويلة لعرض مسرحياته في أمريكا الجنوبية حيث الجالية السورية الكبيرة وقتها ،والي الشام نفسها ،لكنه كان يفاجئ هناك بسرقة شخصية (كشكش بيه )من بعض( اهل الشام )الذين عملوا في مصر ،ثم عادوا حاملين معهم شخصية (كشكش بيه )الي بلادهم ، وقد انتهي هذا العقد من المعاناة علي ما يبدو في ١٩٣٠ مع ظهور السينما ،وتلقي الريحاني لعرض لتصوير (ياقوت افندي )اول أفلامه في باريس في ذلك العام ،ورغم سخريته من السيناريو والحوار ورفض مخرج الفيلم الفرنسي لتعديلات الريحاني التي كانت ستنقذ فيلمه ،الا انه سعد بدخوله عالم السينما ،خاصة وانه عمل بشروطه فيما بعد ،وفرض شخصيته الفنية علي التأليف والإخراج ،واستعان بأفراد فرقته (شرفنطح )،والقصري ،وميمي شكيب )في معظم أفلامه التي أصبحت من روائع السينما المصرية ،والتي حولها مثل مسرحياته لهجائيات للزيف ،والنفاق ،والتهافت علي المادة ،وسخر فيها من الأغنياء وزيف اخلاقهم لحساب البسطاء الذين كان يمثلهم علي الشاشة ،دون زيف او تصنع ، وقد حافظ الريحاني علي نمط حياة بسيط، حتي في الأوقات التي حقق فيها أرباحا خيالية ، وكان منطويا بشكل ما ،ولا يسعد سوي بدعوة افراد فرقته للاحتفال في بيته ،ولم يبن بيتا كبيرا سوي في اخر الاربعينات حتي انه رحل دون ان يسكن فيه ،وقد قارن كثيرون حياته بحياة منافسه يوسف وهبي وهو ارستقراطي كان ينفق ببذخ ويرتدي احدث صيحات الموضة ويسكن القصور الباذخة ، في حين كان الريحاني يفصل بدله عند ترزي في عابدين كأي موظف مصري ،وقد حادثه مخرج أفلامه (نيازي مصطفي )في هذا الامر فقال له (هو انا اللي ه مثل ولا هدومى)؟وهو رد ساخر ،يمكن ان يقوله أي اب مصري من ملايين المصريين عندما يطالبه ابنه بان يشتري له ثيابا جديدة ،واظن اني سمعت مثله من والدتي !.. توفي الريحاني في ١٩٤٩ عن ستين عاما عاشها وكأنها ستمائة عام ،ابدع ،وانجز ،وانتصر ،واجبر والدته التي طردته علي ان تهتف في الناس في المترو (انا والدة نجيب الريحاني الذي تتحدثون عنه )!كان من رسل التنوير والبهجة في حياة المصريين ،وقد سجل مذكراته علي حلقات أسبوعية متواصلة في مجلة (الاثنين الفكاهة والكواكب )الصادرة عن دار الهلال لعامين متتالين من ديسمبر ١٩٣٦وحتي ديسمبر ١٩٣٨)،وبعد وفاته بثلاث سنوات وفي ١٩٥٢ انتقي محرر الكواكب اهم ما جاء في مذكرات الريحاني واصدرها في كتاب ،هو الذي يعيد الأصدقاء في دار (كلمة )نشره ،كتحية لذكري هذا الفنان العظيم ،وحسماً للجدل الذي اثارته بعض المعالجات المستوحاة من قصة حياته ،والتي اثارت بعض الانتقادات ،واتهمها البعض بعدم الدقة ..سلاماً علي هذا الفنان الأصيل ،المعذب بالفن ،وعاش اسمه دائماً رسولاً للمحبة ،وشارة علي صفاء القلب والنية المخلصة ،والقلب النبيل .. طبت حياً وميتا أيها الريحاني العظيم .

تعليقات مضافه من الاشخاص

كتب لنفس المؤلف